كفاح من أجل اليمن… شريط الذكريات

همدان الحقب:
منذ نعومة أظافري، كان اليمن يسكنني كما يسكن الهواء في رئتي. لم يكن مجرد وطن جغرافي بالنسبة لي، بل كان مشروع حياة، حلمًا ناضجًا في كل خطوة، في كل كلمة، في كل موقف. كان جهدنا من أجل التغيير يتجاوز حدود الفهم البسيط، ليصبح نضالًا ممتدًا في الزمان والمكان. لقد بدأت ملامح هذا الكفاح في فترة الإعدادية، حينما كنت أكتب في الصحف والمجلات المحلية في مديريتنا “دمت”، ولكن هذه الكلمات البسيطة التي خطتها يدي كانت تحمل هموم وطن كامل، تطلعات شعب أعياه الظلم والفساد.
في مرحلة الثانوية، كان وعيي السياسي يتبلور بشكل أكبر، حيث انضممت إلى صفوف الحزب الاشتراكي اليمني، ذلك الحزب الذي كان من أبرز القوى المعارضة لنظام علي عبدالله صالح. كنت أشارك في تنظيم الفعاليات الطلابية، وكان لنا دور بارز في تحريك الشارع وتوجيه الحركات الاحتجاجية. لم يكن الأمر مجرد انتماء سياسي، بل كان إيمانًا عميقًا بأن الطريق الوحيد نحو التغيير هو مواجهة الظلم بجميع أشكاله.
واستمر هذا النضال مع دخولنا مرحلة الجامعة في صنعاء، حيث انخرطت في النشاط السياسي والاجتماعي في اتحاد طلاب الحزب الاشتراكي اليمني وتلقد دوراً قيادياً في هذا الاتحاد الرائع الذي نبت وسط جحيم المنع والقمع. لم يكن ذلك طريقًا سهلاً، فقد تعرضنا للكثير من المضايقات من قبل أمن جامعة صنعاء، وكنا نُضرب في أكثر من مناسبة بسبب الفعاليات التي نظمناها لفضح سياسات النظام وإعادة إشعال روح التغيير. ومع كل ضربة، كانت عزيمتنا تزداد قوة وصلابة. كانت قلوبنا مليئة بالأمل في غدٍ أفضل، ولو كان الطريق محفوفًا بالمخاطر.
ثم جاء يوم 11 فبراير 2011، يوم الثورة الذي كان بمثابة نقطة التحول في تاريخنا. كانت الثورة بالنسبة لي، ولأمثالي من شباب اليمن، أملًا في غدٍ جديد. لم تكن مجرد احتجاجات، بل كانت حركة فكرية وثقافية تستهدف إحداث تغيير جذري على مستوى الدولة والمجتمع. كنت أحد الشباب الذين تصدروا الصفوف في المظاهرات، لكل قناة فضائية او مقروءة صدحت باهداف الثورة وقضيتها الوطنية المقدسة في حق اليمنيين بغد افضل، وكنت جزءًا من اللجنة الوطنية لقوى الثورة، ثم عضوًا في الحوار الوطني الذي كان الهدف منه بناء وطن جديد، وتحديد معالم بناء الدستور اليمني الجديد. كانت تلك المرحلة تحمل في طياتها آمالًا كبيرة، وكانت الشوارع تضج بحلم شعب يرفض الاستبداد ويطالب بالحرية.
ولكن، كما هي عادة الأحداث الكبرى في تاريخ الشعوب، لم تكتمل الصورة. إذ جاء الانقلاب على الثورة من قبل تحالف الحوثيين ونظام علي عبدالله صالح، فانهار الحلم واندثرت الأماني. انقلبت الصفحة، ليجد اليمن نفسه في أتون حرب أهلية دمرت كل شيء. واليوم، عندما أسترجع ذكريات تلك الأيام، أشعر بغصة شديدة. كيف أفسد هذا التحالف المارق كل ما بنيناه بأيدينا؟ كيف أطفأت يد الغدر نور فجر الثورة الذي بدأ يضيء ليل اليمن الدامس؟ هذا الظلام الذي لم يقتصر على الشوارع فقط، بل دخل إلى القلوب والعقول، ليخيم على كل حلم بنيناه يومًا.
في هذه اللحظة، لا يعزيني شيء سوى الأصدقاء الذين قابلتهم في رحلتي النضالية. هؤلاء الذين تقاسمت معهم الآلام والأحلام في زمن الثورة. كان لهم الفضل في فتح آفاق جديدة في نفسي، وفي تعزيز إيماني بأن ما ناضلنا من أجله كان يستحق التضحية. هؤلاء الأصدقاء الذين أصبحوا جزءًا من ذاكرتي، محفورين في القلب والروح، هم الشهداء الصادقون والوطنيون المسحوقون الذين ضحوا من أجل حلم لم يتحقق. فيهم وجدت الوطن، وفيهم وجدت اليمن الحقيقي الذي كنت أطمح إليه.
وأحيانًا، في لحظات الصمت هذه، أُدرك أن الحياة قد تأخذنا إلى مسارات جديدة، حيث يصبح رفقاؤنا في الطريق من نوع آخر. قد يضطر الإنسان في بعض الأوقات لمصاحبة “الأوغاد” – كما يسميهم البعض – لكن يبقى في القلب ذلك الصدق الذي دفعنا ثمنه باهظًا في أيام الثورة. وربما، في النهاية، نكتشف أن ما خسرناه من أجل الحلم كان أثمن مما كسبناه في عالم الواقع. فالحلم، رغم كل شيء، يبقى أسمى وأرقى.
اليمن الذي ناضلنا من أجله لن يموت. قد تتغير الوجوه، وتبقى الأرض، ويبقى التاريخ يشهد على ما قدمناه من أجل حريته وكرامته.
المقال من صفحة الكاتب على فيسبوك.
https://www.facebook.com/share/p/HyYk7Huf4dkqu1kd/
